الاثنين، 8 أبريل 2013

القاضي احمد بن اسعد آل مذهنة الابياتي


القضاء هو إقامة العدل ، والقاضي هو من يقيم العدل بين الناس ، وهو في الإسلام من يفصل بين المتخاصمين وفق مقتضيات الشريعة الإسلامية ، بعد تحققه من صدق وصحة ما يعرض عليه من خصومات ودفوعات وفق الطرق المعتبرة، لذلك، ولا بد أن تتوافر شروط في القاضي أهمها العلم والفهم ورجاحة العقل، وتكتسب أحكامه القوة والإلزام ووجوب التنفيذ، إن لم يحول دون ذلك اعتبارات شرعية داحضة .
ورد في رسالة أمير المومنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عندما ولاه القضاء ( وهذه الرسالة تعتبر من أهم قواعد ومرتكزات القضاء في الإسلام ) حيث يقول (... فانه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له) أي انه لا قيمة لحكم ينطق به القاضي إذا لم ينفذ ، فإذا لم تكن هناك سلطة قوية تقوم على تنفيذ الحكم الصادر من القاضي فلا معنى لوجوده أصلا، لذلك عرف الفقهاء القضاء بأنه (تبيين الحكم الشرعي والإلزام به وفصل الخصومات ) ـ من كتاب الروض المربع شرح زاد المستقنع في فقه الإمام احمد بن حنبل ـ لأجل ذلك لم يكن للقضاء وجود في كثير من المجتمعات لانعدام السلطة الحاكمة المنفذة فيها، ومن ضمنها منطقتنا فيفا وما جاورها، حيث لم تخضع لسلطة حاكمة قبل العهد السعودي الزاهر، وإنما كان الناس فيها يتحاكمون إلى الحكم القبلي العشائري، وما يرتكز عليه من أعراف وقواعد بعيدة في معظمها عن الشريعة الإسلامية.
إلا ما كان عندما تولى شالشيخ يحي بن شريف السنحاني (رحمه الله) الشيخة في فيفا، في أواخر القرن الثالث عشر الهجري، حينما ادخل قواعد إصلاحية تتوافق مع توجهه الديني، ومن أهمها ( منع النصب : وهو الاعتقاد في المزارات والأولياء والصالحين والأوثان، ومنع العزيمة : وهي التحاكم إلى الكهان والعرافين والبشعة، وأوجب التحاكم إلى الشريعة الإسلامية، وإهدار دم من تمرد على تحكيمها) وقد التزم له العقلاء من قبائله على مساندته والوقوف إلى جانبه ومناصرته لتنفيذ هذه القواعد ، ولأجل ذلك جلب الفقهاء والقضاة والمعلمين من ضحيان وغيرها، وأقام المساجد والشعائر الدينية، وقام على تحكيم الشريعة الإسلامية، ومحاربة البدع والخرافات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولما تولى الشيخة من بعده ولده الشيخ علي بن يحي (رحمه الله) في حوالي عام 1322هـ سار على نفس النهج والطريقة، وكان على درجة عالية من العلم، حيث درس أثناء إقامته مع والده في قطابر عندما هاجر إليها مغاضبا في بداية القرن الرابع عشر الهجري .
كان في تلك الفترة قد وجد من أبناء فيفا مجموعة لا باس بها قد تعلموا ونالوا درجة كبيرة من العلم توهلهم لان يعتمد عليهم، ويسند إليهم مهمة القضاء،ومن هولاء ابن عمه القاضي حسن بن جبران السنحاني المثيبي (رحمه الله) أو ممن جاؤوا بعد ذلك كالقاضي احمد بن اسعد آل مذهنة الابياتي (صاحب هذه السيرة) أو الفقيه حسين بن شريف العبدلي أو الفقيه حسن بن احمد آل خفشة الابياتي (رحمهم الله)، فكان يستعين بهم في هذا المجال ، فلما انضوت فيفا تحت الحكم الإدريسي في حوالي عام 1328هـ ، وكان الإدريسي قد فوض صلاحية الحكم في فيفا إلى الشيخ علي بن يحي ، فكان ذلك عونا له على تطبيق ما كان قد اختطه من إصلاحات، ومن أهمها تطبيق الشرع والحكم بموجبه ، فكانت حاجته اكبر إلى الاستعانة بهولاء العلماء والقضاة، ليعينوه على تسيير ما أوكل إليه من مهام ، فزاد اهتمامه بهذا الجانب (تحكيم الشريعة الإسلامية) وأولاه جل اهتمامه، فكان يحيل ما يعرض عليه من قضايا وخصومات إلى هولاء القضاة ، ثم يقوم على تنفيذها ، وقد يرفع منها ما يكون في القضايا الكبرى (الحدود والقصاص ) إلى الحكومة المركزية في صبيا، ليأخذ الحكم الصفة النهائية، ولتنفيذه هناك من قبل الحكومة المركزية درءاً للفتنة.
ثم لما دخلت فيفا في الحكم السعودي الميمون عام 1349هـ ، وهذه السلطة كما هو معلوم تباشر الحكم الإداري بواسطة أمراء تعينهم من قبلها، وهولاء الأمراء ينهون ما يعرض عليهم من خصومات واختلافات بين الناس على ضوء ما التزمت به الدولة واتخذته دستورا لها من تحكيم الشريعة الإسلامية، فلما كانت الأمور في بداياتها ولم تكتمل معظم الدوائر الحكومية ومن ضمنها القضاء ، فكان هولاء الأمراء يستعينون بعلماء البلدة الموثوقين ، لذلك كان أول أمير لفيفا ( فهد بن معتق) يحيل ما يعرض عليه من قضايا وخصومات إلى هولاء القضاة ، وبالأخص القاضي احمد بن اسعد آل مذهنة ، بحكم قرب مسكنه (بقعة العذر) من مركز الأمارة (النفيعة) ثم يقوم الأمير على تنفيذ ما يصدر من أحكام ، وهكذا سار على نهجه الأمراء من بعده (علي بن عبد الله الخليوي 1350هـ ) و(حسن الكويليت 1351هـ ) و(إبراهيم التويجري 1352هـ ) ولأجل ذلك يعتبر القاضي احمد بن اسعد آل مذهنة أول قاض سعودي في فيفا وان لم يكن ذلك بصفة رسمية .
فمن هو يا ترى هذا القاضي، لنتعرف عليه أكثر من خلال هذا السرد المختصر لسيرته، فنقول وبالله التوفيق :
انه القاضي أحمد بن أسعد بن جبران بن يزيد بن سليمان آل مذهنه الابياتي الفيفي، وأمه هي الفاضلة سلامة بنت احمد بن قاسم آل راعي الداثري (رحمهم الله) .
ولد في فيفاء في العقد الأول من القرن الرابع عشر في حوالي عام 1305هـ ، في بيت (البوادح) الواقع في وسط بقعة العذر من الجبل الأعلى من فيفا، ونشأ في أسرة متدينة محافظة على شعائر الدين ، فتربى وترعرع في أجواء تفيض بالتدين والإيمان.

طلبه العلم : 

رأى فيه والده علامات الذكاء والنبوغ منذ سن مبكرة ، وكان مهتماً بتعليمه وتربيته تربية دينية ، ولذلك شجعه على السفر إلى اليمن من أجل طلب العلم على أيدي علمائها ، ومازال شاباً يافعاً ، مع أن السفر في ذلك الوقت (ومازال) قطعة من النار ، وكان السفر سيراً على الأقدام لمسافات طويلة ، كابد خلاله الكثير من العناء والتعب والإرهاق ، فتوجه أولاً إلى العاصمة اليمنية صنعاء، حيث تلقى علوم الدين واللغة العربية ، وبقي هناك فترة من الزمن ، أكب خلالها على حفظ القرآن الكريم والحديث ومتون الفقه – جرياً على العادة السائدة آنذاك - حتى حَصَّل قدراً وافراً من العلم ، ثم عاد إلى مسقط رأسه فيفاء ، ثم بعد مدة من الزمن توجه إلى ضحيان التابعة لمحافظة صعدة في شمال اليمن ليكمل تحصيله العلمي على أيدي مشائخها بكل جد واجتهاد ومثابرة ، عاد بعدها إلى فيفاء وقد أمضى أكثر من (12) سنة في طلب العلم وتحصيله ، نال خلالها الكثير من العلوم والمعارف في الفقه والحديث والأصول واللغة العربية والفرائض وغيرها.
عانى في رحلاته الكثير من المصاعب والمشاكل والهموم ، فبالإضافة إلى الغربة والبعد عن الأهل والديار ، وقلة ذات اليد والمؤنة ، ذاق مرارة الجوع ، يبيت أحياناً طاوياً، تفوته الوجبة والوجبتان دون أن يجد ما يسد به رمقه ، في ليال شديدة البرد، تتجمد فيها مياه الآبار، وفي طريقه ذاهبا وعائدا يواجه المخاوف والصعاب ، ويقاسى الأهوال والمخاطر، من قطاع الطرق وما أكثرهم مع اختلال الأمن ، ومن الحيوانات المفترسة ومخاطر السيول ، وفي إحدى تلك الرحلات حينما كان عائدا من هجرة ضحيان إلى فيفاء ،وقد نزل من (نيد الركو) في جبل منبه ، في طريقه داخلاً إلى أعلى وادي ضمد، والليل قد أرخى سدوله، لا يكاد يتبين ما حوله ، والمكان موحش قفر خاليا من السكان ، إذا به أمام قطيع من الذئاب تلتف حوله لتفتك به ، وليس له حام ولا معين إلا الله سبحانه وتعالى ، الذي ألهمه تسلق شجرة ضخمة قريبة منه، فوصل قمتها ، واختبئا بين أفنانها ، يسمع عواء الذئاب المحيطة بالشجرة تنتظر نزوله ، ليكون جسمه النحيل وجبة لها ، فبَقِـي في مكانه حتى أشرقت الشمس ، وتفرقت الذئاب ، فنزل وواصل مسيره ، ولولا عناية الله الذي ألهمه تسلق الشجرة ، وحفظه بحفظه لما نجا من ذلك المصير الفظيع .

بذله للعلم :

بعد عودته من اليمن بدأ يمارس مهامه الدينية المتعددة، إيمانا واحتسابا وطلباً للمثوبة من الله سبحانه وتعالى ، وكان وقته موزعاً بين أداء العبادات، والدعوة إلى الله وإرشاد الناس، وتعليمهم أمور دينهم، ومحاربة البدع والخرافات، وتربية الأولاد والعمل في مزرعته ، والحكم بين الناس بشرع الله المطهر فيما شجر بينهم ، و إصلاح ذات بينهم ، فافتتح كتَّاب بجوار منزله يعلم الناس القرآن الكريم ، والقراءة والكتابة والعلوم الدينية ومبادئ اللغة العربية ، حيث تلقى على يديه الكثيرين ومنهم :
• القاضي : حسن بن أحمد آل خفشة
• القاضي حسين بن شريف العبدلي
• ابنه : محمد بن أحمد أسعد الأبياتي
• أحمد بن حسن سالم الأبياتي
• حسين بن حسن سالم الأبياتي
• جبران بن سالم أحمد العمري
• قاسم بن سلمان المشرومي المثيبي
• شريف بن حسين صبحان الأبياتي
• محمد بن أحمد آل خفشة ، وكثيرون غيرهم

ممارسته القضاء:

كما سبق وذكرنا لم يكن للقضاء الشرعي وجود في فيفا، قبل تولي الشيخ يحي بن شريف (رحمه الله ) الشيخة في أواخر القرن الثالث عشر وبداية القرن الرابع عشر الهجري، وسار عليها من بعده ولده الشيخ علي بن يحي (رحمه الله)، فكانوا في البداية يستعينون ببعض العلماء من علماء اليمن ، ثم ما لبث ووجد من أبناء فيفا علماء وصلوا بفضل الله إلى درجة كبيرة من العلم، أوكلوا إليهم هذه المهمة ، ومن هولاء القاضي حسن بن جبران السنحاني (رحمه الله) ، ثم صاحب هذه السيرة القاضي احمد بن اسعد آل مذهنه (رحمه الله) وغيرهم، فكان الشيخ علي بن يحي إذا توسم في احد أبناء فيفا شيء من النبوغ في أي مجال من المجالات ، اختبره وسبر غوره وتعرف على قدراته ودرجة علمه وتفوقه ، فأوكل إليه بعض المهام والمسؤوليات فيما يراه مناسبا له ، فإذا ما اثبت جدارته اعتمد عليه وقربه واحتفى به ورفع من قدره ، فهو يعرف أقدار الرجال فيسخرها فيما فيه تحقيق مصالح الناس ، وكان القاضي احمد بن اسعد من هولاء الذين قد نالوا تقدير الشيخ (علي بن يحي) فاعتمد عليه في هذه الوظيفة الخطيرة ، فكان يحول إليه الكثير مما يعرض عليه من مشاكل وقضايا الناس فيحكم فيها بشرع الله ، ثم عرف له الناس فضله وقدره ووثقوا في علمه وعدله وأمانته وتقواه ، وقنعوا بما يصدر عنه من أحكام عادلة منصفة ، فكان معظمهم يأتون إليه من أنفسهم ليحكم بينهم ، فأصبح مجلسه مقصداً للمتخاصمين وطالبي الحق ، يفصل بينهم ويحل مشاكلهم بعد أن يتوثق من أن ما يصدره من أحكام سينفذ، بأخذ الضمانات اللازمة لذلك.
لقد تطور القضاء في عهد هذين الشيخين العظيمين، وزادت الحاجة إليه والاهتمام بتطبيقه ،عندما دخلت فيفا تحت سلطة الحكومة الادريسية، حيث أسندت إلي الشيخ علي بن يحي الحكم الإداري بين قبائل فيفا ، فشجعه ذلك وأعانه على ما كان قد اتخذه من إصلاحات ومنهج سار عليه حيث عممه على جميع قبائل فيفا، من تأصيل وتطبيق الشريعة الإسلامية بينهم ، والتحاكم بها فيما شجر بينهم، وتطور الأمر معه في ظل هذه الصلاحيات الجديدة التي أعانته ودعمته في تحقيق ما كان يصبو إليه من أهداف ومعتقدات يؤمن بها.
فلما دخلت فيفا في الحكم السعودي الزاهر عام 1349هـ ، وكان أسلوبها يختلف عن أساليب الحكومات السابقة، فهي تمارس السلطة الحقيقية بنفسها وتباشر مهامها بين رعاياها بواسطة أمراء تعينهم من قبلها،وتدعمهم بالكثير من القوة والصلاحيات ، مما يعينهم على تنفيذ ما أوكل إليهم من مهام ، ومن أولويات مهامهم إقامة العدل والأمن والحكم بين الناس بالشرع والإنصاف فيما بينهم، فنرى أول أمير لفيفا (فهد بن معتق ) من حرصه على ذلك كان يحيل ما يعرض عليه من قضايا يتطلب الحكم فيها بالشريعة ، إلى القاضي احمد بن اسعد، لمّا عرف قدره ومكانته العلمية وفضله ، وما يتمتع به بين الناس من سمعة طيبة وثقة كبيرة ، ولقرب سكنه من مركز الأمارة ، وقد سار على نفس النهج كل من الأمراء من بعده (كما اشرنا سابقا) ، لذلك فالقاضي احمد بن اسعد (رحمه الله) يعتبر أول قاض لفيفاء في العهد السعودي، وان لم يكن معيّناً بصفة رسمية .
وكان يستقبل الخصوم في بيته (البوادح ) الذي خصص فيه مجلسا خاصا للقضاء يسمى (الديوان) وهو في الدور الثالث من هذا البيت ، وقد يحال إليه بعض القضايا، أو يطلب منه بعض الخصوم النظر في قضياهم، وهو خارج بيته وبعيدا عنه كأن يكون في السوق، وبالذات سوق النفيعة الأسبوعي، الذي يقام في يوم الاثنين، ولان معظم الناس ينشغلون بأمور معاشهم، سواء في الحرث والزرع أو الرعي وغيرها من الحرف ، فلا يكاد احدهم يغادر مزرعته إلا اضطرارا في هذا اليوم لحاجته الملحة إلى السوق ، فكان معظم الناس يؤجلون كل ما يهمهم من قضايا وشكايات إلى هذا اليوم، فإذا حضر احدهم للسوق عرضها على أمير المركز، أو الشيخ أو على القاضي مباشرة، فإذا ما عرض احدهم شكواه أو خصومته على أمير المركز أو شيخ الشمل، وكان الموضوع يتطلب إيضاحا للحكم الشرعي فيها ، تمّ إحالته وخصمه إلى القاضي لينظر فيها ويبين الحكم الشرعي ، فكان رحمه الله إذا ما أحيلت إليه أي قضية وهو في السوق ، عمد إلى مواعدة الخصوم خارج السوق ، فلا ينظر ابد أو يستمع إلى أي خصومة داخل السوق ، احتراما منه وإكراما للقضاء ، وعادة كان يواعدهم في بيت (بطحان) البيت المجاور للسوق ،لقربه من السوق فلا يشق على الناس ، ولكونه منزو قليلا عن لجبة وإزعاج المتسوقين (وكان البيت لسليمان بن حسن الصخيبي الابياتي)، فإذا ما انتهى من النظر في القضية عاد إلى قضاء حوائجه الخاصة في السوق .
لقد بذل نفسه ووقته وبيته محتسبا للعلم وللناس (رحمه الله) فيأتونه في كل وقت ومن كل مكان، لطلب العلم أو الفتيا فيما أشكل عليهم من أمور دينهم ، أو للحكم فيما يعرضونه عليه من خصومات ونزاعات ،وكان في أحكامه صارما لا يتردد في الصدع بالحكم متى تبين له وجه الحق فيه ، لأجل ذلك لم يرق في أعين بعض الناس ، فكانوا يطلقون عليه لقب (الحشاش) لهذه الصرامة .
ولما لم يكن له راتب أو مصدر رزق غير ما يحصله من مزرعته، ولا يتركونه الناس يتفرغ للعمل فيها، فقد كان شيخ الشمل أو الأمير فيما بعد، يفرضون له كأمثاله من العلماء والقضاة، مكافأة أو شيء من العشورات كالمتبع في معظم الحكومات ، لتعينه على تفرغه لهذا العمل المهم والخطير.

كيف تعقد مجالس القضاء:

لما لم تكن هناك سلطة رسمية من دولة قائمة (قبل العهد السعودي)، تقوم على تنفيذ الحكم بعد صدوره، وتحفظ هيبة القاضي وما يصدر عنه من أحكام لازمة التنفيذ، أو تحترم المجلس وحسن الأدب بين المتخاصمين ، لذلك فالقاضي يسعى بنفسه لضمان كل تلك الأمور والآداب، وأهمها ضمان تنفيذ ما يصدره من أحكام ، فكان في البداية يطلب كفلاء من المتنازعين لوضع الحكم موضع التنفيذ قبل أن ينظر في القضية، ويسمون (صحايب)، وهم فئتان فئة يقدمها المدعي وتسمى (صحايب حفاظ) أي قنوع بالحكم له أو عليه ، وفئة يقدمها المدعى عليه وتسمى (صحايب سوق) أي ضبط المدعى عليه وارضاخه للتنفيذ، ثم يسمع الدعوى والإجابة والبينات ، ثم يصدر الحكم، وفي اغلب القضايا لا تحرر الإجراءات ، ولا تصدر فيها أحكام مكتوبة، ثم تطورت حتى أصبحت تكتب وتميز إذا دعت الحاجة من جهة علمية يتفق عليها، وقد تحفظ من الحكم صورة عند شيخ الشمل للرجوع إليها عند الحاجة .
مقتبس (بتصرف) : (من كتاب فيفا بين الأمس واليوم للشيخ علي بن قاسم)
وكان القاضي احمد بن اسعد يسير على نفس النهج، فكان يستوثق من المتخاصمين بالتزام الأدب والنظام أثناء سير المحاكمة ، واحترام مجلس الشرع ، وأن ينفذ المحكوم عليهم الحكم دون مماطلة ، ويأخذ من كل طرف كفيلاً مَعْرُوفاً قادراً على إلزام كل منهما بإنفاذ ما يحكم به الشرع ، ثم يوجه بعد الحكم خطاباً لكل كفيل لبيان كفالته ، وبيان ما حكم به الشرع ، وذلك ضماناً لحسم الخلاف وإنهائه .

نماذج من احكامه:

هناك نماذج كثيرة، ولكن نكتفي بنموذجين فيهما الكفاية لإيضاح طريقته وحزمه وقوته :
الأول / كان القاضي حسن بن جبران آل سنحان، قد حكم بين كل من سلمان بن أسعد السنحاني المثيبي، واحمد بن علي المشرومي المثيبي، وكان الحكم في صالح الأخير، فلم يقتنع به سلمان بن أسعد، فأرسلهما الشيخ ومعهما الحكم إلى القاضي أحمد بن أسعد لينظر فيه بالنقض أو الإقرار ، فأجاز الحكم كما هو دون نقض أو تعديل، فغضب سلمان بن أسعد ولمز القاضي حسن بن جبران واتهمه بالتحيز لخصمه، وقال : لن أنفذ الحكم، فغضب القاضي أحمد بن أسعد غضباً شديداً من هذا السلوك الشائن، وارتفعت الأصوات في المجلس، وما هي إلاّ لحظة وجيزة حتى تراكض رجالات بقعة العذر (كعادتهم إذا سمعوا لجبه في مجلس القاضي حماية له وصون لمكانته) وكانوا مصطحبين أسلحتهم وكان من ضمنهم ( امفايد يحيى أسعد)، الذي وصل والناس ممسكين بسلمان خلف مسجد (البوادح)، فاطل عليهم من درج يهبط إلى هذا المكان، والشرر يتطاير من عينيه وهو يصيح عليهم بأعلى صوته (فروا فروا)، ويده على زناد بندقيته (الهطفاء) يريد أن يبطش بهذا المتمرد على حكم الشرع ، فتفرق الناس من حوله في كل اتجاه ، ويناشدونه في عدم الإقدام على إطلاق النار، وأنه لم يعمل ما يستوجب ذلك، فلمّا رأى ذلك سلمان بن أسعد قال : أشهد الله وأشهدكم أني قبلت وحملت ونفذت الحكم ، وأردف بقوله (حكم حسن جبران ولا بندق امفايد ـ وذهبت مثلا ـ ) .
ثانيا/ حدث نزاع بين كل من الشيخ علي بن يحيى شيخ قبيلة آل الحرب، والشيخ أحمد بن حسن ( ابن آل جحمة) شيخ قبيلة آل امشنية، واستمر فترة طويلة كادا أن يقتتلا لولا تدخل البعض بينهما، بالاتفاق على الرضا بحكم الشرع من القاضي أحمد بن أسعد الأبياتي، وكان من عادته قبل النطق بأي حكم (كما أسلفنا) أن يطلب من كلٍ من المتخاصِمَيْن كفيلاً بتنفيذ ما يحكم به الشرع ، وكان لا يقبل الكفلاء إلا من الأسر القوية المعروفة ذات النفوذ والسطوة ، حتى تكون قادرة على إلزام المتخاصِمَيْن بما يحكم به القاضي ، خصوصا إذا كان المتخاصِمَيْن من المشائخ أو أعيان المجتمع ذوي الجاه والنفوذ ، واتفق الخصمان على يوم محدد للحضور إلى ديوان القاضي ، ولما حضرا وبدأ كل منهما يقص دعوته والقاضي منصت لهما ، اخذ أحمد بن حسن المشنوي يرفع صوته بشكل كبير، كعادة المتخاصمين عندما يأخذهما الغضب ، فخاطبه الشيخ حسن بن سالم جبران آل مذهنه الأبياتي (وكان شيخ الابيات في تلك الفترة وهو ابن عم القاضي ) قائلاً له أنت في مجلس الشرع ولا مجال فيه للاعتداء أو لرفع الصوت ، وكان كل منهما يدعي أن مواشي الآخر تدخل في أرضه وتأكل الزرع والأعشاب ... الخ .
وبعد انتهائهما من قول كل ما لديهما، طلب القاضي من الشيخ علي بن يحيى الحربي أن يُكَفِّلَ ( آل غرسة)، وهي أسرة قوية ومشهورة من قبيلة (آل عبدل)، في قبول وتنفيذ ما يحكم به الشرع ، وطلب من الشيخ أحمد بن حسن المشنوي أن يُكَفِّلَ (أهل قزاعة)، وهي أسرة قوية ومشهورة من قبيلة (آل امشنية)، في قبول وتنفيذ ما يحكم به الشرع ، ثم نطق بالحكم بين الخصمين ، وكتب للأسرتين بكفالتيهما ، فكان يقول الشيخ علي بن يحيى الحربي (وهو راوي الحكاية) كانت إذا دخلت مواشي الشيخ أحمد بن حسن المشنوي أرضي، يطلق أهل (قزاعة) النار على منزله (طالعة) ، وإذا دخلت مواشي أرض الشيخ أحمد بن حسن المشنوي، أطلق (آل غرسة) النار على منزلي ، ثم ما لبثنا قليلاً حتى زالت الشحناء والبغضاء التي بيننا، وسادت الألفة والمحبة وأصبح يزور كل منا الآخر عند مرضه وفي الأعياد والمناسبات .

ماذا قيل عنه:

مما يؤثر عن شيخ الشمل علي بن يحيى الذي كان يقدره ويحترمه ويدنيه من مجلسه ، انه كان يقول:
في ثنائه على سعة علمه واطلاعه مقارنا بينه وبين بعض مجايليه من العلماء، أما ابن آل مذهنة (يقصد القاضي أحمد بن أسعد) فاجتف الكبة كلها من طرف (أي استوعب العلم بكامله ) ، وكان يستشيره في بعض الأمور ، ويوكل إليه القيام ببعض المهام .
وقال عنه الوالد القاضي علي بن قاسم :
انه كان ذا دين وتقوى ونزاهة ، وكان اشد صرامة في أحكامه فلا يتردد في الصدع بالحكم متى يتبين له وجه الحق ، وكان يتحاشا الألفاظ العامية في كتاباته ، وقال أيضاً : كنت أعتقد أنه بسبب تعلمه في اليمن يفضل الحكم اليمني لفيفاء ، وبعد اطلاعي على بعض خطاباته لمشائخ فيفاء وجدته يدعو ويحث الجميع على الوفاء ببيعة آل سعود التي في أعناقهم ، بل ويحملهم تبعات نقضها .
حالته الاجتماعية:
تزوج زوجتين الأولى : الفاضلة/ مسفرة بنت حسن العمري من ( آل برقان )، والثانية: الفاضلة/ مشنية بنت سلمان العمري من ( آل اللَّبِث ) رحمهما الله ، ورزق منهما بالعديد من الأبناء والبنات مرتبة ابتداء من الأكبر :
• الشيخ : محمد بن أحمد (رحمه الله)
• عبد الرحمن بن أحمد (رحمه الله)
• عبد الله بن أحمد (رحمه الله)
• موسى بن أحمد
• سليمان بن أحمد
• حسين بن أحمد (رحمه الله)

إضافة إلى ثلاث بنات هن :
• سلامة بنت أحمد (رحمها الله)
• عائشة بنت أحمد (رحمها الله)
• فاطمة بنت أحمد (رحمها الله)

ترجمة لبعض أبنائه:

(ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم) توفي (رحمه الله) وأبنائه صغار في السن، إلا ابنه الأكبر محمد (رحمه الله)، فقد لازم اباه فترة لا باس بها، وتعلم على يديه وحضي بقسط كبير في العلوم الدينية وعلوم اللغة العربية ، وكذلك أخويه عبد الرحمن وعبد الله (رحمهما الله) وان كانا اقل من محمد، أما من جاء بعدهم من الأبناء (موسى وسليمان وحسين) فقد استشهد (رحمه الله) ومازالوا صغاراً،ولكنهم مع ذلك قد تعلموا ونالوا قسطا لا باس به من التعليم، ولهم العديد من الأبناء والأحفاد وصلوا إلى درجات عالية من العلم والأدب والفضل، بارك الله فيهم جميعا، ونخص بتعريف بعض من هولاء الأبناء المبرزين (رحمهم الله جميعا ) وذلك على النحو التالي:
محمد ــ اشتهر بذكائه وفطنته وتدينه وورعه وجمال خطه ، وكان يأتيه أصحاب الحاجات ليكتب لهم المعاريض والشكاوى إلى أمير فيفاء وإلى غيره من المسؤولين ، وكان يمارس التعليم في الكتاب بجوار مسجد (البوادح) حيث يدرس القراءة والكتابة وبعض مبادئ الدين واللغة العربية ، وكان أيضاً يشتغل بالطب الشعبي ويداوي بالأعشاب ويأتيه المرضى من فيفاء ومن خارجها ، إضافة إلى قيامه بالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، مات في حوالي عام 1360هـ وهو في ريعان شبابه ولم يتزوج.
عبد الله ــ سافر إلى الرياض في شبابه ، ومكث فيها معظم حياته ، وكان متعلما يجيد القراءة والكتابة ويلم ببعض المعلومات الدينية واللغوية ، والتحق بالعمل الحكومي في جهات عديدة ، حتى استقر في وزارة المواصلات ، وقد تدرج في مراتبها حتى تم تعيينه مديرا عاماً للمواصلات بمنطقة جازان بالإضافة إلى إدارة ميناء جازان ، ثم عاد بعدها إلى الوزارة بالرياض مفتشاً عاما إلى أن تقاعد، وحينها انتقل إلى منطقة جازان واشتغل في الزراعة، وكانت له مزرعة نموذجية كبيرة في جهة (الحسيني) ، وفي إحدى أيام رمضان من عام 1412هـ وقبيل الإفطار تذكر أمراً مهماً في مزرعته ، وفي أثناء طريقه إليها إذ بسيارة مسرعة تصطدم بسيارته ، يتوفى بسببها في الحال ، رحمه الله رحمة واسعة وغفر له .
حسين ــ كان على قدر لا باس به من العلم والثقافة وحب القراءة، ويمتلك مكتبة صغيرة في بيته، التحق بالعمل العسكري في بداية حياته في تبوك ، ثم تركه وانتقل إلى مدينة الرياض، والتحق بالعمل الحكومي لفترة في وزارة المواصلات، ثم مارس بعض الأعمال الحرة في التجارة وغيرها ، وكان (رحمه الله) احد وجهاء فيفا البارزين في مدينة الرياض، قطب في كل محفل وكل لقاء ، ومشارك فعال يقف مع الجميع، يدعم من يحتاج بجاهه وماله ،وينبه الآخرين للمبادرة في عونه ، وقد لقب بشيخ الشباب لتبسطه معهم ودعمه لأنشطتهم ، كان له اكبر الأثر والعديد من الأدوار الداعمة لاستمرار (الدورة الرياضة لأبناء فيفا في مدينة الرياض) ، يبتكر الكثير من الوسائل البسيطة والمؤثرة لمساعدة الشباب ، دون أن يسبب لهم إحراجا، ودون أن تثقل على الآخرين، ومن ذلك (كمثال) انه أول من فكر في معونة العرسان ليلة فرحهم بطريقة مهذبة مقبولة ، فكان يكلف احد الشباب من أبنائه أو غيرهم بالمرور على الحضور واحدا واحدا بورقة ، يسجل فيها كل من رغب بالمشاركة ولو بشيء قليل ، فيجتمع ببركة الله مبلغ لا باس بها ، يقدم للعريس كهدية في نهاية الحفلة ، (وقد أفصح كثير من هولاء الشباب فيما بعد عن ما حققته لهم تلك المعونة من فائدة وسعادة ، وما أخرجتهم من عنت كانوا سيقعون فيه) ،ولنجاح هذه الوسيلة انتشرت بشكل كبير بين أبناء فيفا في كل مناطق المملكة ،وله بمشيئة الله اجر هذه السنة ، توفي في شهر ربيع الثاني من عام 1424هـ رحمه الله وغفر له .

وفاته:

عند زحف الجيش اليمني لاحتلال فيفا عام 1352هـ ،بعد احتلالهم للجبال المجاورة في بني مالك وغيرها ،جرت مكاتبات ومفاوضات بينهم وبين شيخ الشمل علي بن يحيى (رحمه الله ) ، وكان يستعين بكل وسائل الإقناع الممكنة ويكلف كل من له قدرة على التفاوض مع قواد هذه الحملة ، لإقناع هولاء الغزاة بعدم احتلال فيفا ، لأنها بايعت آل سعود على السمع والطاعة، وأصبحت جزءا من دولتهم ، وتجنباً للفتن وسفك الدماء، وكان من ضمن من لهم جهد بارز في هذه المساعي القاضي (احمد بن اسعد) حيث كلفه بمقابلة قادة الجيش اليمني، لمكانته العلمية ولما يحظى به من احترام وتقدير لدى الجانبين ، وفي إحدى جولاته وقد وصل الحليحل قبيل صلاة العصر، في30 رمضان من عام 1352هـ ، توضأ ليتهيء لأداء صلاة العصر في مسجد جامع (الجميمة) ،وبينما هو يهم بالدخول إلى المسجد إذ برصاصة غادرة تنطلق من جهة (الصوفعة) فتخترق صدره ، فأكمل خطواته المكتوبة، ودخل المسجد، ومدّ لحافه وتوسده متجهاً إلى القبلة ، ولفظ أنفاسه الأخيرة وهو على أحسن حال، صائم متوضئ يسعى في الإصلاح بين فئتين من المسلمين، وكان يحمل جراباً به شيء قليل من الزبيب ليفطر به عند أذان المغرب ، توفي (رحمه الله) عن عمر مبارك حافل بالكثير من العطاء والبذل غير المحدود، توّجه ببذل روحه شهيدا متقبلا بمشيئة الله تعالى ، رحمه الله رحمة واسعة واسكنه فسيح جناته .
وقد سارع الكثير من الناس إلى حيث استشهد (رحمه الله)، وحمله بعض أفراد قبيلة (آل العمامي) إلى منازلهم القريبة ، حيث جرى تجهيزه ودفنه بالقرب من منزل الشيخ (يحيى بن جابر العمامي ) شيخ قبيلة آل العمامي .
رحمه الله وغفر له وغفر لوالديه وأصلح ذرياته وجمعنا وإياهم ووالدينا ووالديهم في الفردوس الأعلى من الجنة يا رب العالمين ــ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

محبكم /عبد الله بن علي قاسم الفيفي /ابو جمال
الرياض 21/3/1432هـ

ملحوظة: الشكر الجزيل للاستاذ الكريم محمد بن موسى احمد آل مذهنة (مدير البنك الزراعي بفيفا ) على ما زودني به من معلومات هي مجمل مادة هذه السيرة المباركة بارك الله فيه ووفقه.

هناك تعليقان (2):

  1. أزال المؤلف هذا التعليق.

    ردحذف
  2. أزال المؤلف هذا التعليق.

    ردحذف