القاضي حسن بن جبران آل سنحان المثيبي كأول قاض شرعي من أبناء فيفا مارس هذه المهنة في بلده لذلك عرف بها واشتهر، وبها لقب وتميز، حتى انه لا يكاد يطلق مسمى القاضي إلا ويتبادر إلى الذهن شخصه, حتى أصبح لقبا تعرف به أسرته وذريته من بعده والى اليوم ، فهم لا يعرفون إلا بآل القاضي فهو اسم مرادف لهم يميزهم عن غيرهم من الأسر في فيفا إنه (القاضي حسن بن جبران بن جابر آل سنحان المثيبي الفيفي ) مضى على وفاته ما يقارب السبعين عاما لم يبقى ممن عاش تلك الفترة إلا قلة قليلة جدا ممن كان يومها في سن صغيرة لايكاد احدهم يستوعب كثيرا من سيرته، إلا ما كان من نزر بسيط في حكايات وأخبار يعتريها الكثير من النسيان والشك وعدم التثبت في معظمها، لكون معظمهم سمعها عابرة ولم يلقي لها بالا أو اهتماما ، أو قد اعترى الذاكرة الكثير من الخلل والنسيان ، مما جعل الاعتماد عليها ضعيفا، ولكنها قد تكون شواهد واضاءات خافته تتعاضد مع بعضها لتدل على شيء بسيط من أخبار وسيرة هذا العلم الفذ، الشخصية البارزة التي لم تحظى بالاهتمام اللائق بها، أو التسجيل الذي تستحقه في زمنها، أو زمن قريب من عصرها، ليكون شهود أحداثها أحياء، والذاكرة نشيطة ومستوعبة للأحداث بجميع تفاصيلها ، ولكن كما قيل (ما لا يدرك كله لا يترك جله) وكذلك قولهم (حسبك من القلادة ما أحاط بالجيد).
لذلك سأسعى قدر الإمكان إعادة ترميم بعض هذه الحكاية، واستقراء شيء منها، مما يعطي (بمشيئة الله) صورة قريبة من الواقع، من خلال ما اجتهد في جمعه بعض أحفاد هذا العلم، في نتف من الأخبار بسيطة سجلوها من هنا وهناك، من بعض بناته ممن لازلن على قيد الحياة، ومن بعض كبار السن ممن بقي لديهم شيء مما سمعوه عنه ، وإلا فمعظم هولاء الرواة كانوا حين وفاته (رحمه الله) دون السن التي تسمح لهم باستيعاب تلك الحكايات مباشرة ، لذلك فالعذر إن اعترى ما نورده شيء من القصور، أو لم يرقى إلى ما تؤملونه، وان كنا نأمل أن تقارب نسبة كبيرة من واقع هذه السيرة ،مدعمة ببعض الوثائق البسيطة المتوفرة أو الأحداث المشهورة والمؤرخة، وآمل أن تكون هذه بداية لمشروع يليق بمثل هذه الشخصية وأمثالها في مجتمعنا، يشارك فيه كل قادر وكل من لديه معلومة، لنكوّن صورة واضحة المعالم عنهم ، وهي دعوة مفتوحة للجميع للإضافة والتصحيح والتمحيص والتحليل . لنبدأ الحكاية: والحكاية تبدأ من عند جابر بن علي السنحاني، الذي ولد له ثلاثة من الولد، هم شريف وجبران وحسن، وسنقتصر على اثنين منهم، هما شريف وجبران، فشريف بن جابر الذي ولد في أوائل القرن الثالث عشر الهجري، كان ذا شخصية قوية ومؤثرة، لذلك تولى شملية آل المغامر، بل هو مؤسس الشملية في جذم آل سنحان، حيث كانت قبل ذلك في أهل الطوايل، جماعة الحزامي بن مهدي من آل المودحي . في عهد (شريف) هذا ابتدأت تصل إلى هذه المناطق دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب الإصلاحية، ويبدو انه تأثر بها (رحمه الله)، مما جعله ينضوي إلى جماعة الموحدين المتأثرين بهذه الدعوة، وقد لاقوا تعنت وشدة من مجتمعهم، وأدى ذلك إلى مقتله (رحمه الله) في العقد الثامن من ذلك القرن ، فخلفه في الشيخة ولده يحي بن شريف (رحمه الله) المولود في العقد الخامس من ذلك القرن ، وهو كأبيه كان من اكبر مناصري هذه الجماعة ، واستغل مكانته كشيخ للشمل فيهم إلى سن وإحداث كثير من التغييرات والإصلاحات الدينية بين قبائله، ومن ذلك (منع الختنة (الاخاوة)، وختان التجليد، وترك المناصب (الأوثان) والعزيمة (البشعة) وإبطال حرب العدة ، وجعل الشريعة الإسلامية هي المرجع فيما لم يستطع حله رؤساء العشائر صلحا) واتخذ كفلاء من قبائله تعينه على تنفيذ هذه الإصلاحات وتلتزم بها، ولكنه حدث تمرد على هذه القواعد وعدم قبول من بعض السفهاء ، وتقاعس من الكفلاء عن أداء أدورهم ، وانفلت الأمر حتى همّ بعضهم بقتله ، فاعتزل الشيخة وخرج مغاضبا إلى قطابر، واستقر بها في جوار الشيخ فرحان بن زابية الجماعي والشيخ علي بن يحي حجار الجماعي، ومكث فيها ما يقارب السبع سنين، تدهورت خلالها الأوضاع في فيفا، مما جعل نخبة من أعيان آل عبيد يذهبون إليه يلتمسون عودته ، ملتزمين له بالوقوف إلى جانبه ومناصرته بكل حزم على تنفيذ هذه القواعد الإصلاحية وغيرها مما يريد إضافته إليها ، فلما توثق منهم بالعهود والمواثيق، عاد إلى فيفا مرفوع الرأس عزيز الجانب، وكان ذلك في بداية العقد الأول من القرن الرابع عشر. ( مقتبسة بتصرف من كتاب فيفا بين الأمس واليوم لفضيلة الوالد علي بن قاسم الفيفي). وأما ثاني أولاد جابر بن علي فهو( جبران) وهو اصغر من شريف بكثير، ولم يكن بارزا كأخيه ،ولد لجبران أبناء أكبرهم (حسن) وذلك في العقد الأخير من القرن الثالث عشر ، و(حسن) يقارب في سنه أبناء ولد عمه الشيخ يحي بن شريف (علي واحمد) ، وبحكم القرابة والجيرة في المسكن كان يلازم الشيخ (يحي) وأولاده ، حتى أن الشيخ لما هاجر إلى قطابر كما ذكرنا أعلاه أصطحبه في معية أبنائه ، ولقوة العلاقة والقرابة لم يمانع أبواه في ذلك ، فلما استقر المقام بالشيخ في مهاجره ، حرص على إدخال أبنائه وابن عمه (حسن) في المدارس العلمية القائمة هناك في قطابر، وفي صعدة وضحيان, حتى انه لما عاد بعد زوال موجبات هجرته، أبقى أبنائه وابن عمه يواصلون دراستهم وعاد بمفرده ، وقد نالوا بفضل الله وتوفيقه الكثير من العلم والمعرفة في تلك المدارس العلمية. هذه هي بداية الحكاية والأرضية التي ستعيننا على فهم التغيير الذي ترتب على تعلم هولاء الرواد ممن كان لهم بتوفيق الله الأثر الكبير، على مجتمعهم في مستقبل الأيام، والى اليوم والى ما سيأتي بمشيئة الله وتوفيقه ، فمنهم من قاد وأحسن التعامل والتوجيه (علي بن يحي) والآخر آزر وناصر وأعان بعلمه وفقهه (حسن بن جبران) فهو العالم القاضي الذي استحق بجدارة أن يحمل هذا اللقب ويحمله من بعده أبنائه وأحفاده رحمه الله واسكنه فسيح جناته . إذا فهو العلامة الفقيه القاضي حسن بن جبران بن جابر بن علي بن حسن السنحاني المثيبي ،والده كما ورد أعلاه جبران بن جابر, وأما أمه فهي الفاضلة مريم بنت جابر بن جبران بن علي آل نمرة السلماني من أهل نعمان (البيت الكائن بجوار مدرسة العدوين حاليا) ولد لهما (حسن) كما ذكرنا في نهاية العقد الأخير من القرن الثالث عشر الهجري في بيت (البقعة) الواقع في وسط بقعة وادي البير في الجهة الجنوبية الشرقية من مروح . ![]() بيت البقعة كما أسلفنا في المقدمة فقد رافق ابن عمه الشيخ يحي بن شريف (رحمه الله) وولديه علي واحمد، وكان وإياهما في سن متقاربة، فلما استقر المقام بالشيخ ورفقته في قطابر حاضرة قبائل جماعة، وبها الكثير من المدارس العلمية، التي يدرس بها القرآن الكريم والقراءة والكتابة والعلوم الدينية والشرعية، فقد حرص (رحمه الله) على إلحاقهم بهذه المدارس ، فكانوا كالأرض العطشاء نزلت عليها الأمطار الخيرة، فما أسرع ( ما اهتزت وربت وانبتت من كل زوج بهيج ) استوعبوا الدروس ووافقت لديهم ذكاء فطريا ورغبة أكيدة جعلتهم يتطلعون إلى الاستزادة من هذه العلوم. بقي الشيخ في قطابر ما يقارب السبع سنين، دخل أثنائها في حلف وجوار مع مشايخ جماعة الشيخ فرحان بن زابية الجماعي والشيخ علي بن يحي حجار الجماعي ، وكان أولاده أثنائها ينهلون الكثير من العلوم ، وقد انتقلوا بعد فترة إلى مدارس ضحيان القريبة، لكون مدارسها أرقى واشمل، وفيها عدد كبير من العلماء الكبار، من أصدقاء الشيخ من آل الغالبي وغيرهم ، فوجدوا فيها ومنهم العناية والاهتمام ، ووجدوا فيها المجال أرحب وأوسع لطلب العلم والاستزادة منه. لما تدهورت الأوضاع في فيفا بعد أن تركها الشيخ (يحي بن شريف ) وطال غيابه كما المحنا ، لانعدام القيادة الحكيمة وتفشي الجهل والفتن ، فأصبحت تتقاذفها أمواج الخطر من كل جانب، وتكاد تفضي بها إلى الغرق والهلكة، ولا يوجد الربان الحاذق الحازم الذي يقودها ويوجهها في المسارب الصحيحة ،مما جعل أهل الحل والعقد من أبناء فيفا يفزعون إليه، طالبين منه بكل إلحاح العودة ليواصل قيادة المركب ويخرجهم إلى بر الأمان ،مما جعله يلبي طلبهم ويعود معهم، بعد أن تأكد من مؤازرتهم ومساندتهم له، في تنفيذ ما اختطه من إصلاحات، هي الأساس والسبيل الوحيد الممكن لنهوض بهذا المجتمع . كفل له هولاء النخبة من أهل الحل والعقد الوقوف معه صفا واحدا، ضد كل من يخرق هذه القواعد التي أعلنها ،وما قد يرى إضافته إليها من الإصلاحات المناسبة ، لذلك عاد إلى فيفا تاركا أبنائه وابن عمه يواصلون طريقهم في تحصيلهم العلمي، حيث قطعوا فيه مشوار لا باس به . عاد وابتدأ يمارس أعماله ويعيد ترميم ما قد تهدم وإعادة الثقة للناس، وكان حينها قد تقدم به السن فلم يعد بذلك النشاط الذي كان عليه، والوضع يستدعي عملا وجهدا متواصلا ، وأحس بحاجته الشديدة إلى من يسنده ويعينه، ورأى أن من الحكمة أن يكون ولده الأكبر (علي) بجواره، وهو ذلك الشاب المتدفق حيوية ونشاطا ، وقد بلغ سن النضج والكمال ، واكتسب الكثير من العلوم والمعارف ، مما يؤهله ليكون خير معين لأبيه، لذلك فقد استدعاه فلم يتوانى في العودة ، وأما (حسن) فبقي يواصل دراسته وتحصيله العلمي ، برغبة عارمة ونشاط متدفق ، ولكنه لما أصبح وحيدا لقي الكثير من التعب والعنت والجوع ، حتى يذكر انه قد بلغ به الجوع إلى درجة انه عندما كان يقم المسجد الذي يدرس فيه إذ به يجد في أرضيته قطعة خبز قد يبست وتحجرت من طول مكثها، ففرح بها اشد الفرح ،ولكنه اضطر إلى أن ينقعها في فنجان القهوة، حيث صب عليها أكثر من ثمان مرات حتى لانت فأكلها. لقد اطر نفسه وأقلمها مع الوضع الجديد وأخذها بالحزم والعزم وقوة الإرادة والصبر ، فانقادت له وتحسن وضعه بتوفيق الله وتأييده ، تدعمه رغبة أكيدة في الاستزادة من طلب العلم وتحصيله ، حيث وجد فيه ضالته ومبتغاه ، ومع طول البقاء وكمال النضج العقلي والبدني سعى جاهدا إلى الاستقرار النفسي والجسدي والعاطفي ، ليستعين به على التفرغ التام لدراسته،حيث تزوج من احد الأسر الكريمة هناك . لم ينسى أبدا حق والديه عليه، ووجوب برهما والإحسان إليهما ، وزاده الشوق إليهما عندما وصلته بعض أخبارهما ورسائلهما التي حملت أشواقهما إليه، وما تتضمنه من بعض العبارات والأشعار المعاتبة والرقيقة التي كانت تترنم بها والدته ومنها قولها: عوينها الوالدة دمعها قد لسا ري معيان ## ياليتني عارفة طرق المشارق وضحيان فتحركت أشجانه وأشواقه إليهما وبالذات وهو يعرف تمام المعرفة ما يجب لهما عليه من بر، فكان يزورهما بين فترة وأخرى، بل انه اتفق معهما في أن يقضي العيد معهما سنة بعد سنة،ومن تلك السنين التي قضاها معهما انه حج بوالده، وكان والده قد تقدم به السن، فأتعبه الحج وشق عليه السفر، والسير الطويل لأكثر من شهر روحة وعودة، مع التعب والجوع والحرمان وقلة الراحة، مما أنهك الشيخ الكبير حتى لم يعد يتحمل جسده كل هذا التعب المضني ، حيث مات (رحمه الله) وهو في طريق العودة قرب قرية القحمة، ودفن فيها (رحمه الله)، فعاد الابن إلى أمه وإخوانه حزينا وحيدا،وقد حز في نفسه كثيرا أن يتركهم بعد ذلك ويغترب عنهم من جديد، ولكن ما العمل وقد أصبح لديه في مغتربه زوجة وبنتا صغيرة، فكان لا بد له من العودة إليهما. في هذه الأثناء أو قريبا منها ، حوالي عام 1322هـ انتقل ابن عمه الشيخ يحي بن شريف إلى رحمة الله تعالى ، وتولى الشيخة من بعده ولده الأكبر (علي) ولما كانت طموحات هذا الشيخ كبيرة، سعى بكل عزم على استكمال النجاحات التي حققها أبوه من قبل، وإضافة نجاحات أخرى يؤملها هو، ويرى أهميتها لما أوتي من علم وسعة اطلاع، واستيعاب للمتغيرات المتوقعة، وإحساسا بالمسؤولية التي تحملها، لذا فقد حرص على الاستعانة بكل القدرات التي يستطيع الحصول عليه، من أبناء بلدته ومن غيرهم، علمية وفكرية وغيرها، فكان أول من خطر على باله ابن العم زميل الدراسة ورفيق الدرب (حسن بن جبران)، فقد عرفه وخبر قدراته مع ما قد وصل إليه من علم يؤهله لان يكون اكبر معين له. لقد بعث يطلبه ولما أبطأ في الحضور، كلف(سالم بن شريف آل داود) مرسولا ، يقنعه بالعودة ويوضح له مدى حاجة الشيخ والبلدة إليه والى علمه ، عندها لم يعد لديه عذر يعتذر به ليبقى، وبالذات وقد فقد في ذلك الوقت ابنته الرضيعة ، مع شعوره السابق بحاجة والدته وإخوانه إليه بعد موت الأب، مع إحساسه بثقل الغربة بعد هذه السنين الطويلة، التي تقارب الاثنتي عشرة سنة ، ومع تظافر كل هذه الظروف ، لاقت دعوة الشيخ لديه قبولا ، فعرض الأمر على زوجته، وابلغها بما عزم عليه، وطلب منها أن تتهيأ لمرافقته، فأبدت له عدم الرغبة في السفر معه ، وعدم قدرتها على ترك بلدتها وأهلها، مما اضطره إلى مفارقتها (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) وحزم أمتعته وكتبه ، وعاد إلى بلدته مستقرا بين أهلة وملقيا عصا الترحال. توليه القضاء : فرح أهله بعودته وأكثرهم فرحا زميله ورفيق طفولته ودربه الشيخ علي بن يحي، ليواصلا معا الرفقة والتعاون في طريق الخير والفلاح والإصلاح، ويحققا اسما الأهداف التي يؤملونها لمجتمعهم، الذي هو اشد ما يحتاج إلى أمثالهم، ليكونوا في المقدمة، قادة موجهين ومرشدين في طريق الفلاح والصلاح ، فالبلدة ترزح تحت ظلال كثيفة من الجهل والتخلف ، لولا بصيص أمل كان يأتي بين فترة وأخرى من هنا أو من هناك ، مع بعض من كان يستضيفهم الشيخ يحي بن شريف (رحمه الله) من بعض العلماء يرشدون الناس ويوجهونهم ، لذلك رأى الشيخ الحالي علي بن يحي، انه قد حان الوقت لان يكون لابن الوطن دور في هذه المسيرة، ولا شك انه سيكون دور مؤثر ، وسيكون اكبر حافز ومشجع لأبناء البلدة ممن لديهم الطموح والعزيمة ليتخذوا مثل هذا قدوة لهم في سلوك درب العلم والضياء، فيتسع نطاق الخير والتنوير، ويعم التغيير المنشود لكامل المجتمع، على هدي وبصيرة وطريق مستقيم، وهو ماتحقق بحمد الله وتوفيقه في بضع سنين ، فقد رأينا بعد ذلك الكثير من الأجيال تتعاقب على الهجرة في سبيل طلب العلم بصورة كبيرة ومفرحة ، غيرت وبدلت المجتمع وجعلت لفيفا (بفضل الله وتوفيقه ) التميز على كثير من المجتمعات الأخرى . لما عاد الفقيه حسن بن جبران استقر في منزل أهله (البقعة)، واستقطب حوله الكثير من طلبة العلم يعلمهم ويرشدهم وينصح لهم، واتخذه الشيخ مستشارا ومعينا وقاضيا ، وكان يحول إليه ما يرده من الدعاوي والخصومات، فيحكم فيها بمقتضى شرع الله ، ويقوم الشيخ على تنفيذ هذه الأحكام ، فتعاضدا على الخير وإقامة شرع الله كما ينبغي ، فعرف الناس للقاضي مكانته وقدره، وما يتصف به من علم وعدل وحلم وسعة بال، فكانوا يأتون إليه من ذات أنفسهم ليحكم بينهم، ويستفتونه ويوضح لهم حكم الشرع في كثير من أمورهم . لم تمضي فترة حتى دخلت فيفا في حكم الإمام محمد بن علي الإدريسي، وذلك في عام 1328هـ ، بعد مكاتبات ومفاوضات وشروط تمت بينه وبين الشيخ علي بن يحي، سعى في إبرامها صديقه إسماعيل الغالبي ، تقضي بانضواء فيفا تحت الحكم الإدريسي القائم، ويكون للشيخ علي بن يحي الحكم الذاتي لفيفا، وما استعصى عليه يحيله للإمام، وذلك بموجب وثيقة مؤرخة في عام 1328هـ ، وهذا الوضع مكن الشيخ علي بن يحي بكل قوة واقتدار من مواصلة ما اختطه وما سار عليه هو ووالده وجده من قبل، لتصحيح الوضع في فيفا، وتغيير الكثير من تراكمات الجهل والضلال التي كان يرزح تحتها المجتمع لدهور طويلة ، فكانت حاجته إلى العلماء والقضاة في أداء مسؤولياته الجسيمة كبير وعظيم ، وهو ما سعى إليه فكان ولا شك في مقدمة هولاء ابن عمه القاضي حسن بن جبران، فكان خير معين وعضيد له في هذا الجانب المهم ، يحيل إليه القضايا كما ذكرنا فيحكم فيه ابتداء، أو يعرض عليه ما يصدره القضاة الآخرون فيؤيده أو ينقضه، فاتسع عمل القاضي وزادت مسؤولياته . استمر قاضيا طوال عهد الدولة الادريسية،لما يقارب تسعة عشر عاما، حافظت فيها فيفا على ولائها وعهودها، لم تنكث أو تحيف، اتسعت خلالها دائرة مسؤوليات الشيخ علي بن يحي، حيث ضمت إلى ولايته جميع قبائل فيفا، وبعض القبائل المجاورة من قبائل بلغازي، حتى انه لما توفي الإمام محمد بن علي الإدريسي في عام 1341هـ اعترى الدولة الادريسية الضعف، حيث دب الخلاف والنزاع بين ورثته، ومع ذلك فقد حافظ الشيخ علي بن يحي على العهد وحرص على دوام استقامة الحال في فيفا على النهج الذي اختطه وسار عليه ، ولأجل ذلك سن قاعدة عززها بالكفلاء في استمرار الوضع في فيفا على ماكان عليه من تحكيم الشريعة الإسلامية، وحفظ الأمن والأمان تحت إدارته، على ما كانت عليه قبل وفاة الإمام محمد بن علي الإدريسي،مما أعانه على حفظ واستتباب الأمن وتنفيذ الأحكام الشرعية دون تغيير، فكانت القضايا الشرعية تعقد في مجلسه، أو يحيلها إلى قضاته. لذلك احتل القضاة في عهده مكانة عالية ، وفي مقدمتهم القاضي حسن بن جبران، وكان يفرض لهم مكافآت من الزكوات تكفل لهم الاستقرار والتفرغ التام لهذه الوظيفة الخطيرة . لما دخلت فيفا تحت حكم الملك عبد العزيز آل سعود (رحمه الله)، بموجب البيعة التي تمت له في عام 1347هـ ، استمر الوضع على ما كان عليه ، إلى أن باشر أول أمير سعودي العمل في مركز فيفا، في شهر ذي القعدة من عام 1349هـ ، حيث كانت سياسة الدولة السعودية تقوم على أن تباشر هي الحكم بنفسها من خلال أمرائها الذين تعينهم من قبلها ، لذلك كان هولاء الأمراء في بداية الأمر يستعينون بأهل الكفاءات من أهل البلدة في القضاء وغيره ، فتحيل إليهم ما يعرض عليها من القضايا والخصومات، ثم تقوم على تنفيذ ما يصدرونه من أحكام ، ولما كان منزل القاضي حسن بن جبران في بقعة المزام بعيدا عن مقر مركز الأمارة في النفيعة، كان هولاء الأمراء يحيلون هذه القضايا إلى القاضي احمد بن اسعد آل مذهنة لكون سكنه في بقعة العذر القريبة من المركز ، واستمر الوضع على هذا الحال إلى أن تم تعيين أول قاض رسمي في العهد السعودي (القاضي حسن بن محمد الحازمي) عام 1354هـ . أسلوبه في القضاء: كان كما وصفه فضيلة الوالد القاضي علي بن قاسم من خلال استقراء بعض أحكامه المكتوبة أو مما سمعه عنه ممن عاصروه (انه كان ذا دين وتقوى ونزاهة وبصيرة في حل النزاعات ، يستل حدة الخصوم بتأنيه ). ولعدم وجود جهة تنفيذية رسمية تمضي الحكم عند صدوره، أو تحفظ حرمة مجلس القاضي وتحفظ هيبة القاضي، فكان يحترز لكل ذلك بأخذ الكفلاء الموثوقين من الخصمين، بإمضاء الحكم والتقيد به سواء له أو عليه، مع حفظ هيبة القاضي واحترام مجلس الحكم ، ولذلك فكان القاضي يسير على هذا النهج فهو السبيل الأمثل المتبع بين الناس في ذلك الزمن ، وكان على طريقتين إحداهما ما كان يحال إليه من شيخ الشمل مباشرة، فهو يكتب الحكم ويعيده للشيخ ليقوم على تنفيذه بالطريقة المناسبة التي يراها ، والثانية عندما يأتيه الخصوم مباشرة من ذات أنفسهم، فعندها لا يحكم بينهم حتى يتوثق بالكفلاء الثقاة على تنفيذ الحكم واحترام القاضي ومجلس القضاء. وكمثال لما قد يحدث من سوء أدب، إما لفورة غضب أو عدم قناعة بحكم، لترسبات اجتماعية وقناعات شخصية، نورد هذه الحكاية لتكون نموذجا بسيطا لكثير من مثيلاتها ، ولذا يحترز منها القضاة قبل أن تقع، وتهز من هيبة القاضي ومجلسه، فالكفلاء تحول دون وقوعها ، وان وقعت نكل بالمتسبب بما يناسب تأثيرها ، وهي كالتالي: حضر خصمان بشان ارث لأخت احدهما زوجة للآخر، وبعد توثق القاضي بالكفلاء نظر في القضية، وكان حكمه يقضي بتوريث الأخت ، فرفض الأخ الحكم وقال ما معناه (لن نزيد على اختنا التي زوجناها بلدا(مزرعة) وأضاف إن هذا لا يمكن أن يكون شرع الله ...) ــ نظرة جاهلية قاصرة ــ غضب القاضي من سوء الأدب، واشتد الخصام في المجلس ،وجردت الأسلحة البيضاء وكاد ينفلت الوضع ، ومن جراء ذلك سقطت عمامة القاضي على الأرض. وبعد أن ذهبت السكرة وجاءت الفكرة، ورجع المتخاصمان إلى رشدهما، ألزمهما الكفلاء بإحضار كبشين وصاعين، مع الاعتذار من القاضي لتسببهما في إسقاط عمامته، ولما حدث من سوء أدب في مجلسه ورد الاعتبار له ، وهكذا تدار الأمور بما يناسب الحال على حسب عادات وتقاليد المجتمعات في ذلك الوقت. وكان (رحمه الله) لا يحابي أحدا، بل يقف بجانب الحق حيث ما كان، ولو لأقرب الناس إليه، ولا أدل على ذلك مما نستشفه من خلال هذه الواقعة ، حيث حدث خصام بين ولده الشاب (احمد) وآخر وهما في طريقهما إلى سوق عيبان، انتهى بان قام احمد بقتل خصمه ، وبعدها هرب من مسرح الجريمة، واحتمى بأحد منازل والده في بقعة المزام، فلما بلغ الخبر والده ، واعلم بمكان اختبائه، سارع إليه مع بعض أبنائه من إخوة القاتل، فقبضوا عليه وجردوه من سلاحه، ثم اصطحبه مكتوفا إلى أن سلمه بنفسه إلى مركز الأمارة في النفيعة ، وقد اكبر له ذلك ولاة الدم وجعلهم يقبلون بالصلح، والعفو عن قاتل قريبهم بعد استيفاء الحق العام للدولة. أدواره الإصلاحية: كان له الأدوار المتعددة في نشر العلم والخير، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصح والتوجيه والإرشاد، فكان يؤم الناس في الصلوات، ويخطب بهم الجمع والأعياد، ويعظهم وينصحهم في التجمعات والمناسبات، بما يتناسب مع أوضاعهم سواء في فيفا أو في المناطق المجاورة، من قبائل بني مالك وبالغازي وغيرها ، وكان مسموع الكلمة. لم ينقطع أبدا عن تعليم القرآن الكريم، وبعض العلوم الشرعية، في مسجده عند بيته في البقعة، وفي جامع مروح، ثم في مسجد بيته الفرحه،وفي جامع القاعة، وكانت له مدرسة كبيرة عند بيته الفرحة ، وكان يعاونه فيها كل من سليمان بن جبار الداثري (ابن أهل غريبة) واحمد سلمان يحي الداثري (ابن أهل الغابر). وكان له جهود كبيرة وموفقة في الحكم بين الناس وإصلاح ذات بينهم ، وكان مسموع الكلمة صادق العبارة ، قوي الحجة حاد الذكاء، وكان الشيخ علي بن يحي كما ذكرنا يعتمد عليه في الكثير من الأمور المهمة، والمهام المدلهمة، ومن ذلك عندما غزا الجيش اليمني فيفا،عام 1352هـ ، فهذا الجيش لم يستطع إحراز تقدم يذكر ، حيث لاقى مقاومة كبيرة من الأهالي ، واستحر القتل في الجانبين ، وتضررت القبائل من طول الحرب، وعدم توفر الاسلاحة المناسبة بين أيديهم، لذلك سعى الشيخ إلى حقن الدماء، والتفاوض مع قادة الجيوش الغازية ، واستعان على ذلك بأهل الحل والعقد،والمتمرسين على التفاوض ، وأوكل رئاسة المفاوضة من جانبه إلى القاضي حسن بن جبران، ليتفاوض باسمه على إنهاء القتال بين الطرفين،وتعددت اللقاءات بينه وبين قائد الحملة يحي بن محمد الصعدي والقائد الميداني القلاطي، وبعد مفوضات مضنية تم الاتفاق على ما كفل حفظ الدماء وعدم الاعتداء على الأهالي . مقر سكنه وبيوته: كما أوضحنا كان بيت أبيه (بيت البقعة) في أعلى بقعة وادي البير، ولما عاد من مهجره إلى فيفا واشتغل بالتدريس والقضاء أول ما سكن كان في هذا البيت ، ثم قام بشراء بيت (السودة) في بقعة المزام ونقل إليه والدته وشقيقه سلمان وأخواته (عافية، وسعيدة ، وفاطمة)، ثم بعد فترة اشترى بيت (الحيد) البيت المجاور للسودة، وأعطاه لأخيه سلمان، وبالتالي تنازل له (سلمان ) وأمه وأخواته عن بيت البقعة ، ثم اشترى بيت (المقمعة) بالمزام واسكن فيه إحدى زوجاته ، ثم بادل بهذا البيت في البيت المسمى (الملفق) بوادي الفرع ، وأما بيت الفرحة فكان بيت لزوجته ليلي بنت احمد المثيبي . وقد بنى وشارك في العديد من المساجد والجوامع، ومن هذه المساجد ، المسجد الصغير بجوار بيت البقعة في بقعة وادي البير ، وبنى مسجد الفرحة بجوار منزل الفرحة ، كما شارك في بناء جامع القاعة في بقعة آل قاسم ، جعل الله كل ذلك وكل ما عمره من المساجد سواء حسيا أو معنويا خالصا لوجهه الكريم، ومرجحا لموازين حسناته، وتكفيرا عن سيئاته، وغفر له ولوالديه ووالدينا وكل المسلمين . حياته الاجتماعية: تزوج بأكثر من امرأة ورزق بالعديد من الأبناء من الأولاد والبنات ومن هولاء الزوجات : 1. مريم .... (رحمها الله) أول زوجاته، تزوجها في بلدة ضحيان أثناء إقامته بها لطلب العلم ولم يرزق منها إلا بطفلة ماتت صغيرة ، وطلقها قبل عودته إلى فيفا لما أبدت عدم رغبتها في السفر معه والاغتراب عن اهلها . 2. معجبة بنت جبار الداثري (رحمها الله) من أهل غريبة (أم محمد). 3. وشمة بنت حسين الداثري (رحمها الله) من أهل الكري (أم احمد). 4. مطره بنت موسى السعيدي المالكي (رحمها الله) (أم جبران). 5. مريم بنت علي الجنادي الغزواني (رحمها الله) (أم علي). 6. ليلي بنت احمد يحي المثيبي (رحمها الله) من أهل المقافي (أم يحي). وله من الأولاد ( محمد ، احمد، إبراهيم،جبران، علي ، عيسى، عبد الرحمن، يحي ،قاسم ، موسى ، حسين) رحمهم الله جميعا. ومن البنات (بنته في ضحيان ، وعائشة ، مريم، فاطمة ، جميلة، حورية، محسنة ، حالية، جميلة، آمنة ، صفية ، عافية) رحم الله من مات منهن وحفظ الباقيات على طاعته وختم لهن بخير . فقد توفي الآن كل أولاده بنين وبنات ولم يبقى منهم على قيد الحياة إلا بناته (آمنة ، صفية، عافية) وله العديد من الأحفاد وأبنائهم وأحفادهم والأسباط رحم الله من مات منهم وحفظ بحفظه الباقين وأصلحهم وأصلح ذرياتهم . وفاته : تفرغ في آخر حياته العامرة بالخير والعلم والعمل، للتدريس عند بيته الفرحة، وللفتوى، وكان يكب على القراءة ويلخص بعض الكتب في الفقه وغيره من العلوم ويعلق كثيرا على حواشيها، وقد أوصى قبل موته (رحمه الله) بجميع كل مالديه من الكتب والمخطوطات وإرسالها وقفا لمسجد الأمام الهادي بصعدة لتبقى هناك لطلبة العلم ، وقد استثنى لمن رغب من أبنائه الحق في استرجاعها ، وقد نفذت الوصية بعد موته، وللأسف لم يسعى أي احد من أبنائه إلى استرجاع شيء منها. قام بأداء فريضة الحج في موسم عام 1358هـ ، وفي العام التالي 1359هـ حدثت الزلازل في فيفا وما جاورها، وكان لها تأثير كبير على الناس في إظهار التوبة والأوبة إلى الطريق المستقيم ، فكانت له رحمه الله أدواره المتعددة في النصح والتوجيه والموعظة والإرشاد ، وفي آخر حياته مال إلى العزلة والتفرع للعبادة وملازمة المسجد، حتى انه قسم جميع تركته من البيوت والمزارع على ورثته وأبنائه، وقد الم به مرض أنهكه كثيرا والزمه الفراش، لم يمهله طويلا إذ بعد أسبوعا واحد توفي رحمه الله في بيته الفرحة، ودفن هناك في حوالي عام 1365هـ ![]() بيت الفرحة والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. محبكم/ عبد الله بن علي قاسم الفيفي ـ أبو جمال الرياض في 17/6/1432هـ ملحوظة : الشكر الجزيل للأخ الاستاذ/علي بن يحي حسن آل القاضي على جهده المميز في جمع معظم مادة هذه السيرة وكذلك الأخ الاستاذ/حسين بن موسى حسن آل القاضي وفقهما الله وبارك فيهما. |
الاثنين، 8 أبريل 2013
القاضي حسن بن جبران آل سنحان المثيبي
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق