الطمأنينة صفة لا تأتي من فراغ، ولا يتحلى بها إلا قلة من الناس، تحسها من خلال تعاملك معهم، ومن خلال تواصلك الايجابي بهم، هي تنبثق من داخل النفس ، لتنعكس على تعامل وتصرفات المتصف بها، وهي في العادة تفيض من النفس يحسها ويستشعرها الذين من حوله، من خلال معاشرته والتعامل معه، وهي في حقيقتها ردة فعل، ونتاج لقوة الإيمان والتقوى، ودليل على ثبات الفكر، وحسن التصرف، وشجاعة القلب ، وتعلقه التام بالله سبحانه وتعالى.
فهناك إنسان تشعر وأنت بالقرب منه بالطمأنينة والسكينة والوقار، وإنسان لا تشعر بشيء من ذلك ، بل قد تشعر بكثير من التوجس والخوف والريبة، وعدم الارتياح النفسي بقربك منه، فتسارع إلى البعد عنه متى ما استطعت إلى ذلك سبيلا، فالأول إنسان قوي الإيمان ، كريم الأخلاق، حسن السمت، كثير البشاشة، يقابلك دوما ببسمة مشرقة، وضياء جبين لا يفارقه، طلق المحيا، هادئ في طبعه وفي حديثه وفي تعامله، ومع ذلك فكلامه قوي النبرة ليس فيه خنوع ، موزون العبارة لا يتلعثم ، تتميز تصرفاته وتفاعله بالثبات والركود، وكل ذلك سجية وطبعا من دون تكلف ، بخلاف الآخر الذي تلقاه مترددا، مهزوز العبارة ، كثير الريبة والشكوك، نظراته زائغة متوجسة ، لا يثبت على وضع واحد ، متصفا بالتملق والوصولية، ثرثار من غير فائدة ، كثير التقلب والكذب، يسعى دوما للمظاهر الكذابة والمخادعة. إن الإنسان في جبلته كتلة من المشاعر والأحاسيس، تتشكل وتبرز على شخصيته إما سلبا أو إيجابا، لتفصح عن معدنه، وطوية نفسه، وكمال معتقدة ، وصاحب سيرتنا من النوع الايجابي، الذي تطمئن إليه كلما اقتربت من محيطه، تجده هادئ في كل أموره، وفي كل تعاملاته، وفي جميع تصرفاته، وفي ردود أفعاله، فهو بحر لا ساحل له من الأخلاق العالية، والصفات الجميلة الراقية، التي يتحلى بها جبلة لا تجملا، لأنها صفة أصيلة فيه ، تنبع عن تربية عالية ، وثقة مطلقة، ووضوح رؤيا ، فهو واثق من نفسه ومن ثقافته ، شجاع في أموره، وفي قراراته، وفي كل أحواله ، عركته الحياة وعركها ، منذ صغره وحداثة سنه ، فكان من صغره وما زال على مقاعد الدراسة المبكرة ، مستقلا بنفسه معتمدا عليها في كثير من أموره ، يسعى إلى توفير احتياجاته بنفسه، هكذا رباه والده وهكذا هو تكوينه ، كان من صغره يشارك أباه في العمل في المزرعة ، حتى أتقن كل أعمالها، وما يلزم لها إلى أن تمرس بذلك ومهر فيه، فكان والده يعتمد عليه كثيرا في هذا المجال ، بل ولا يمنعه إذا ما رغب في العمل لدى الآخرين من الجيران والأقارب، حيث أعطاه ومنحه الثقة بنفسه ، وعوده على اختيار ما يراه مناسبا له في حياته ، ولا يناقشه في كثير من اختياراته ، بعد أن أدرك حصافة رايه، وحسن اختياره ، فألف العمل حتى أدمنه وأصبح يجد اللذة فيه ، وفي الكدح المثمر في مجالات الحياة ، بل وصل به الأمر إلى انه لا يرضى أن يبقى عاطلا دون عمل مثمر مفيد ، فكان يمارس هوايته في الحرث والزرع والقلع ، وفي إعادة بناء المدرجات الزراعية المتهدمة، ومع هوايته تلك الغريبة،فلم توثر على اهتمامه بمستقبله وتحصيله العلمي، فقد كان يحرص على أن لا تؤثر أو تتعارض مع دراسته، فكان لا يعمل إلا في العطل المدرسية وفي أوقات الفراغ ، وكان يشرك معه في كثير من تلك الأعمال بعض ممن هم في سنه من أصدقائه وأقربائه وجيرانه، فيشجع بعضهم بعضا ، ويكونون في نفس الوقت قريبين من بعضهم ، لذلك كان يجني من خلال ذلك بعض المال البسيط، ويكسب الخبرة والتعلم والاعتماد على النفس ، فحقق ذاته وتعرف على قدراته، وكسب من خلالها ما يعينه ماديا في قضاء معظم حوائجه، فكان يشعره ذلك بكثير من الفخر بنفسه، وإحساسه بالاستقلالية، وفي المقابل كان يريح والده، ولا يكلفه أو يرهقه بطلباته المحدودة، فاكتسب الكثير من الخبرات الحياتية ، وتمتع بالصحة والنشاط البدني والنفسي ، والبنية الجسدية القوية، الواضحة عليه إلى اليوم. انك تشعر وأنت تتعامل مع هذا الإنسان منذ طفولته، بأنك تتعامل من إنسان كبير السن ، لديه الكثير من التجارب والخبرات المتعددة ، يشعرك بأنك مع إنسان صبور ومجتهد ومكافح ، وتحس بأنه إنسان فاهم مستوعب للحياة ،وقور كريم النفس ، فهو يحسن التعامل والتصرف في كل أموره وفي كل حياته ، يحترم نفسه ويحترم قدراته ويحترم الآخرين، يسير وفق برنامج منظم مدروس، قد فهم الحياة وعركها وعركته، فاهم ومستوعب للحياة، قد حدد أهدافه ورسم طريقه ، فهو يسعى إليه بكل قوة وثبات وطمأنينة، فيعطي كل ذي حق حقه، دون تنازل منه عن حقوقه وعن قوة شخصيته وعزة نفسه ، يجبرك أن تحبه وتقدره وتحترمه، وان لا تفرط في التمسك بصداقته والقرب منه، تشعر حقا وأنت بالقرب منه بالطمأنينة والسكينة والوقار، وهي أفضل صفة يحسن توافرها في أمثاله ممن يمارسون مهنته ، فيما يتعلق بعمل الأطباء والمعالجين في كل الفروع والتخصصات، لان اطمئنانك إلى من تتعامل معه ، يولد في نفسك الراحة والايجابية، فتتقبل أقواله وإرشاداته وتتأثر بها، فتنفعك وتستفيد منها. تجد كل هذه الصفات الايجابية وأكثر منها، وتستشعرها حقيقة في صاحب سيرتنا، انه ولا شك الاستاذ/ يحيى بن هادي بن علي بن احمد آل خفشة الابياتي الفيفي. ![]() والده هو هادي بن علي، الذي لا شك انه اخذ منه الكثير، في هدوء طبعه ودماثة أخلاقه ، فهو وان كان بسيطا في حياته، ولكنه في واقعه كتلة من الخبرات والتجارب والمهارات والإبداع ، التحق في بداية شبابه في حوالي عام 1373هـ بالجيش السعودي، جنديا في مدينة الطائف ، وبقي فيها لأكثر من ثلاث سنوات ، وفي هذه الأثناء توفي والده (علي بن احمد رحمه الله)، مما اضطره إلى ترك هذا العمل والعودة مرغما إلى فيفاء ، ليكون قريبا من والدته وأخواته، وبعد أن استقر به المقام في فيفاء ، اتخذ من العمل في مزرعتهم مصدر لمعاشه ، وفي العمل لدى الآخرين بالأجر اليومي، واشتهر بإتقانه للبناء الشعبي بالحجارة، وكانت من المهن الهامة والضرورية في تلك الفترة ، قبل أن يدخل التغيير الحاصل في عصرنا الحاضر على حياة الناس، بما توفر لهم بفضل الله وتوفيقه في ظل هذه الدولة المباركة (حفظها الله) من تغيير في كل نواحي الحياة، شمل الأرض والإنسان ، فاستبدلوا بيوتهم الحجرية ببيوت حديثة مسلحة ، حتى انقرضت تلك المهنة وغيرها من المهن الكثيرة ، ولان طبيعة هذا الرجل (حفظه الله) كانت من النوع المبدع الذي يسعى إلى إتقان العمل الذي يقوم به، ويمارسه بكل احترافية ومهارة ، فأنت عندما ترى البيوت القديمة، تشعر بعظمتها ومتانة بنيانها، وما تحتاج إليه من مهارة عالية وإتقان، وهو مع ذلك في أموره العادية إنسان بشوش، لا تلقاه إلا مبتسما مشرق المحيا ، يميز طبعه الهدوء والطمأنينة والوقار، سواء في حديثه أو تعامله، وفي أموره كلها ، فإذا ما تحدث أسرك بحسن كلامه، وسعة معلوماته، وسمته وحسن أدبه وأخلاقه وجم تواضعه. لقد تزوج بعد عودته إلى فيفاء، من الفاضلة مريم بنت حسن بن احمد آل هديش الابياتي الفيفي، وسكن مع زوجته هذه في بيت (الغرز)، ثم في بيت (الربدة) ، وترك بيتهم (الثميلة) لوالدته وأخواته ، وكل هذه البيوت بالطبع تقع في وسط بقعة العذر، وقد ولد لهما بكرهما (يحيى) في هذه الأثناء في حوالي عام 1381هـ وان كان المسجل في بطاقته الشخصية انه من مواليد عام 1378هـ ، وتربى في حجرهما وفي رعايتهما، على الكثير من الفضائل والحلم والأناة، والاعتماد على النفس، وحب الخير لكل الناس. تعليمه: ألحقه والده قبل المدرسة الابتدائية، في معلامة عبد الله بن شريف العبدلي (رحمه الله)، التي أقامها لفترة وجيزة في نيد الدارة، ثم ألحقه بعدها في معلامة موسى القيسي (يمني )، كان يدرس بجوار بيت البديع، بيت حسن بن يحيى العمري ، الواقع في جبل العمريين تحت بيت المرجلة. ثم ادخله والده المدرسة الابتدائية القائمة في النفيعة، وان تأخر دخوله إليها قليلا، ولكنه انتظم في الدراسة برغبة جامحة إليها، فكان طالبا مجدا متفوقا، اجتاز سنواتها بيسر وسهولة، فكانت الأمور تسير معه فيها بنمط واحد وعلى وتيرة واحدة، من النجاح والتميز عاما بعد عام، فما إن بلغ الصف السادس حتى طرأ لهم شيء جديد ، وتجربة مختلفة وجب عليه وزملائه خوض غمارها، حيث لابد له ولزملائه أن يمرون بها، تتمثل في تأدية الاختبارات في هذه السنة النهائية، من المرحلة الابتدائية، في مدينة صبيا، أمام اللجنة المركزية التي تعقد فيها، حسب ما كانت تسير عليه الأنظمة في تلك الفترة وما قبلها، وذلك نظرا لأهمية هذه الشهادة في ذلك الوقت، وعلو شأنها مع بدايات التعليم النظامي، لقلة المتعلمين وفشو الجهل. أين هم وأين مدينة صبيا، لقد كانت حينها بالنسبة للأغلبية من أهل فيفاء تعتبر مكانا بعيدا، وغربة صعبة، فكان هو ومعظم زملائه لأول مرة يغادرون فيفاء، ولأول مرة يركبون السيارة، مع ما تعنيه لهم رهبة الاختبارات، مع الشحن النفسي لما يسمعونه عنه من كثير ممن سبقوهم إلى أدائه، والمبالغات المصاحبة لكثير مما يقال ، ومن خلال التوجيهات والنصائح المتكررة بالمذاكرة والمراجعة، وتخويفهم المتواصل بان أمامهم اختبارا صعبا، فكل هذه رسائل تستقر في الأنفس وفي الوجدان ، فيستشعرون وكأنهم سيدخلون إلى معركة حربية حاسمة ، كل ذلك كان له رجع صدى من الخوف والرهبة غير المفهومة في أنفسهم. لنستمع للحكاية منه وهو يعبر عنها بكل مصداقية، ويشرح فيها كل الخلفيات والتوجسات التي مروا بها، وما صاحبها لديه ولدى الكثير من زملائه من مشاعر وأحاسيس، وهي حالة معظم الطلاب في تلك الفترة وما قبلها وما تلاها، إلى أن تغيرت النظرة التربوية للاختبارات بصفة عامة ، فيقول: ما إن أنقضى من العام الدراسي نصفه أو ثلثه، إلا ودق ناقوس الخطر، معلنا قرب موعد الاختبارات، الذي ليس عاديا بالنسبة لنا، فهو اختبار شهادة المرحلة الابتدائية ، وأي شهادة هي في ذلك الوقت. لقد انتظرنا بفارغ الصبر وصول جدول الاختبارات، وما يسمى بأرقام الجلوس، وكان موعد بداية الاختبارات قد تحدد في يوم السبت 5/5/1395هـ في مدينة صبيا، وكان حينها يوافق بداية فصل الصيف، والجو فيها حار جدا، لم نألفه نحن أبناء الجبال في مناطقنا الباردة، وكان يزيد من حرارته الخوف الشديد، وهيبة الاختبارات، التي طالما سمعنا عنها الكثير من الأخبار المبالغ في معظمها ممن سبقونا، فيتحدثون دوما عن صعوبة الاختبارات، وعن تشدد وصرامة لجان المراقبة ، وقوة الأنظمة فيها. لذلك وبعدما عرفنا موعد الاختبار، بدأت حالة الاستنفار الجادة، من عمل الجداول الخاصة للمذاكرة ، وعمل ملخصات ومذكرات، وسهر الليالي والتجمعات عند الزملاء، لعمل خطط إستراتيجية لهذا الخطر القادم . كان الوقت يمر بطيئا، إلى أن حان موعد الرحيل ، وكانت الإدارة ممثلة في الاستاذ الكبير حسن بن فرح الفيفي (حفظه الله) الذي كانت هذه السنة هي أول سنة له في تعليم فيفاء ، فقد قامت المدرسة بالتنسيق لهذه الرحلة، وحجزت حافلة لنقل الطلاب (شاص مشدود) من فيفاء إلى صبيا، وتم تحديد الانطلاق من محطة (السربة) أسفل الجبل، وكان عددنا (16) طالبا، يرافقنا بعض من أولياء الأمور. انتظمنا داخل السيارة بين الخوف والفرح ، الخوف مما نحن مقدمين عليه ، والفرح بهذه التجربة الجديدة ،وما إن تحركت السيارة، حتى بدأنا في ترديد الأهازيج الشعبية ،ندفع بها عن أنفسنا الخوف والملل، وقد استمرت الرحلة لما يقارب خمس ساعات ، كان الطريق متعبا ، كله حفر ومطبات، لأنه طريق ما زال ترابيا وعرا. لما وصلنا إلى مكان إقامتنا المعد لنا في مدينة صبيا، وكان بيتا واسعا، مهيأ بوسائل الراحة المتاحة حينها، يقع في حي (الموابلة)، الذي يبعد عن المدرسة مقر لجنة الاختبارات حوالي 2كم ، ولا نعتبرها مسافة بعيدة بالنسبة لنا، رغم أننا سنقطعها يوميا ذهابا وعودة مشيا على الأقدام، لأننا متعودون على المشي في بيئتنا، والسير لمسافات طويلة، وكان السبب في اختيارهم هذا المكان، هو البعد بنا عن الضوضاء والضجيج داخل المدينة ، بسبب كثرة السيارات والدراجات النارية. بدأت أيام الاختبارات ومضت سريعة ، كل يوم مليء بالذكريات والمشاهدات الجميلة ، وكان الاختبار بالنسبة لنا سهلا ميسورا، بسبب استعدادنا التام من قبل بوقت كاف . ما إن أكملنا الاختبارات في آخر يوم منها، حتى توجهنا مباشرة بحافلتنا إلى إدارة التعليم بمدينة جيزان، لنستلم من هناك مكافأة إتمام الاختبارات، المخصصة للطلاب أمثالنا، الذين يحضرون إلى مقرات لجان الاختبارات من مدارس بعيدة ، وكان مقدار هذه المكافأة 200 ريال للطالب، وهو مبلغ كبير في تلك الفترة ، فتوجهنا بعد خروجنا من إدارة التعليم إلى احد الأسواق القريبة، في مدينة جيزان بقصد التسوق والفرجة ، وكان كل شيء نراه فيها غريب ومدهش ومغر في نفس الوقت، قمت بشراء بعض الهدايا والحاجيات، وقد اشتريت جهاز(راديو) مذياع ، بغرض سماع نتيجة الاختبارات، حيث كانت تعلن من خلال الإذاعة، وكان الجميع يترقبونها ليلا ونهارا بفارغ الصبر، أما أنا فللأسف فقد أعلنت النتيجة وأنا نائم، لذلك لم استفد من هذا المذياع للغرض الذي اشتريته من اجله ، ولكن الحمد لله كانت النتيجة طيبة، حيث نجح جميع طلاب مدرستنا. ثم يقول بعد ذلك: ما إن حصلت على شهادة المرحلة الابتدائية، حتى بدأت الأفكار تدور في ذهني، فالخيارات أمامي كثيرة، والأبواب مشرعة تناديني ، فهل أواصل الدراسة في المرحلة المتوسطة، أم اكتفي بهذه الشهادة الكبيرة في نظري، كانت تراودني فكرة الالتحاق بالخدمة العسكرية، وأحيانا البحث عن وظيفة مدنية, ولكن أمام هذين الخيارين عقبة كبيرة، هي في كيفية استخراج الشهادة من إدارة المدرسة (الممثلة في الأستاذ حسن فرح) ، الذي احتفظ بكامل الشهادات في الإدارة بعد ورودها ، ولم يرينا إياها مجرد الرؤيا، ورفض بشده تسليم أي شهادة منها، حرصا منه على مواصلتنا للدراسة في المرحلة المتوسطة لديه, ومن ذا الذي يستطيع الانفكاك من قبضته الحديدية، وأخيرا استسلمت للأمر الواقع، وقررت الاستمرار في مواصلة الدراسة في المرحلة المتوسطة، (مكره أخاك لا بطل) ورغم صعوبة الحياة وقتها, وشح الموارد المالية لدى الوالد, ولكنها كانت مرحلة جميله جدا، بوجود نخبه من المعلمين الكرام، شجعونا على إتمام الدراسة، حتى حصلت على الشهادة المتوسطة. وفي هذه المرحلة وسعيا مني للمشاركة مع الوالد (حفظه الله) للتغلب على بعض الظروف المادية ، كنت اعمل في الإجازات وأحيانا خارج وقت الدراسة، بالأجر اليومي، أو آخذ بعض المقاولات الصغيرة ، فكنت أعمل في البناء والزراعة {الفرس} وأحيانا في النجارة، فأقوم بتصليح بعض الأبواب الخشبية، بل وعملت في تلييس المباني الحجرية، وكان العمل أحيانا يتواصل من الصباح الباكر إلى منتصف الليل، خاصة عندما أكون مضطرا لإنهاء المقاولة في وقتها المحدد، لكي أحظى بثقة أصحاب العمل، ومع شدة الإرهاق والتعب المتواصل كنت أتمنى حلول الظلام سريعا ، لكي استغرق في نوم عميق ,ولكني مع ذلك استيقظ مع الصباح الباكر، مع صياح الديك وتغريد العصافير. بعد حصولي على الكفاءة المتوسطة، تكرر نفس المشهد، ولان إحساسي كبر بواقعنا الأسري، حيث كانت الظروف المادية صعبة، وكان الوالد (حفظه الله) يكدح ويتعب اشد التعب في سبيل تأمين مصاريف الحياة، وأبواب الرزق محدودة ، ولما كنت اكبر إخواني، شعرت بضرورة المساهمة ولو بجهد يسير معه، على الأقل في تحمل احتياجاتي الخاصة ، وكنت قد فكرت وأنا في السنة الأخيرة من هذه المرحلة (المتوسطة)، في الالتحاق بالثانوية العسكرية في الخرج، لان لدي ميولا للخدمة العسكرية ، وهذه الثانوية طريق لتحقيق ذلك، وفيها ميزات مغرية كما اسمع، ومنها المكافأة المالية، ولما هيأت نفسي للسفر للتسجيل فيها، إذ بالوالدة تمر بوعكة صحية شديدة، وزادت حالتها سوأ بعد سماعها بسفري إلى خارج المنطقة، فلما رأيت ذلك وعدم رغبتها في ما عزمت عليه ، ألغيت الفكرة نهائيا وقررت البقاء لديها ، ومواصلة الدراسة الثانوية في فيفاء، وكان في ذلك الخير كل الخير. أكملت المرحلة الثانوية والحمد لله بتفوق، وكان الطموح قد كبر معي اكبر واكبر، حيث قررت دراسة الطب، فسافرت إلى الرياض حاملا شهادتي الثانوية ، وسجلت مباشرة في جامعة الملك سعود، وتم قبولي في كلية الطب ، ولكن لم يناسبني جو الرياض الجاف ولم أستطع التأقلم معه بسهولة، لذلك فقد استبشرت كثيرا عندما سمعت بافتتاح كلية للطب في مدينة أبها، فقررت في الحال دون تفكير طويل أو تردد في السفر والعودة إلى أبها للالتحاق بهذه الكلية الناشئة ، لكونها ستحقق له مواصلة الدراسة في المجال الذي أحبه وأرغبه ، وفي نفس الوقت أجد الجو الذي يناسبني ويتوافق مع طبيعتي ، وفعلا قمت بالتسجيل في كلية الطب بابها مع بداية الفصل الدراسي الثاني ، وانغمست في الدراسة بكل جدية واجتهاد ،ولكن ما إن مضت السنتان الأول من الدراسة، وأكملت فيهما البرنامج الموحد للكليات الصحية، وهو شرط أساسي لدخول كلية الطب ، إلا وكانت المفاجئة أنه لم يقبل من الطلاب إلا ثلاثة فقط، أنا واحد منهم، ولقلة عددنا لم نتمكن من دراسة جميع المناهج، فعدم وجود العدد الكافي من الطلاب حال دون ذلك ، ومن اجل ذلك كانت الكلية تخطط لتأخيرنا بشكل غير مباشر، حتى تزداد الأعداد في السنوات اللاحقة، وهذا التأخير غير المجدي لم يكن يناسبني ، وشعرت انه يحد من طموحي ويثبط في همتي ، لذلك قررت الانتقال إلى كلية طب أخرى، أكمل فيها مشواري ، فاضطررت مكرها للعودة إلى مدينة الرياض مرة أخرى ، حيث حصلت على موافقة الانتقال من عميد كلية التربية بابها، الذي كان في تلك الفترة نائبا عن عميد كلية الطب، لكونه في خارج المملكة ، فلما أحضرت أوراقي إلى كلية الطب بالرياض رفضت قبولي، وكان السبب أن عميد كلية الطب في أبها، قد طلب إلى كليات الطب في جميع الجامعات عدم قبول طلابه ، حرصا منه كما يدعي إلى بقائهم لديه في الكلية ، لذلك أصبت بصدمة كبيرة ، ولما كنت قد عزمت على عدم العودة إلى أبها حاملا فشلي، استخرت الله سبحانه وتعالى، واتجهت إلى الالتحاق في كلية العلوم الطبية التطبيقية، حيث تخصصت في العلاج الطبيعي، وبدأت الدراسة من جديد، وكأنني لم أتخرج من الثانوية العامة إلا هذا العام، حيث ضاعت مني سنتان كاملتان، ولكنها في الحقيقة لم تضع فقد استفدت فيهما كثيرا، ثم إن هذا هو قضاء الله وقدره. لقد أكمل دراسته الجامعية في هذا التخصص قانعا بما قسمه الله له ،ولم تمضي فترة من الوقت إلا وأحب هذا المجال وهذا التخصص حتى أبدع فيه وتفوق، ولم يندم قط على ما فات ، إلى أن تخرج منه بتقدير جيد جدا مرتفع، مما جعل الكلية ترشحه للإعادة فيها (معيدا)، ولكنها لا تتوفر في الكلية حينها وظائف معيدين شاغرة ، فكان يلزمه الانتظار لفترة غير محددة، قد تصل لأكثر من ستة أشهر، ولم يكن لديه القدرة على الصبر كل هذا الوقت، وكما قيل (يبطئ على الجائع فت العيش )، فالصبر قد نفد لديه نهائيا، وأجواء الرياض لا تناسبه كثيرا كما أسلفنا ، ومن جهة أخرى إلحاح والدته لا يفارقه، في رغبتها في أن يعمل في مكان قريب منها، لذا فقد توكل على الله وحزم أمتعته، متوجها يحمل أوراقه وشهاداته إلى مدينة أبها، التي طالما أحبها وعشق جوها، فتقدم هناك بطلب العمل في مستشفى أبها العام، وكان التوفيق حليفه، حيث تيسرت كل أموره بأسرع مما يتوقع ، وصدر قرار تعيينه في نفس اليوم الذي تقدم فيه ، وكان هذا اليوم هو بداية مباشرته في عمله الوظيفي، الذي يوافق 13/2/1408هـ، موظفا في مستشفى أبها العام. بعد التحاقه بالعمل الوظيفي، لم يتوقف عن الرفع من مستواه العلمي، وقدراته المهنية، وتتبع كل جديد في تخصصه، والتزود بكل ما يستجد من علوم ومخترعات فيه، فمهنته الطبية من المهن المهمة المتجددة، السريعة التطور ، التي يلزم العامل فيها أن يلاحق ويتابع كل جديد فيها، وإلا لن يشعر إلا وقد فاته الكثير من المستجدات المهمة في عمله، ولم يعد يستطيع الاستمرار في مهنته بالطريقة المناسبة، مما قد يحدث فجوة كبيرة بينه وبين عمله الفعلي، لذلك فهو يشارك في كل جديد من الندوات والدورات والمؤتمرات التي تخدم تخصصه ، وتثري معلوماته . ففي عام 1413هـ تم إبتعاثه في دورة تتعلق بتأهيل المرضى بعد الحوادث، في جامعة هلسنكي بفنلندا، وبقي فيها لأكثر من سبعين يوما ، وهي عبارة عن دورة تدريبية مكثفة، يتم فيها ممارسات عملية تطبيقية على الواقع ، حيث تنقل خلالها لأكثر من مستشفى، وأكثر من مشفى ومركز تأهيلي، فكان يبقى في كل مستشفى متخصص، أو مركز لمدة أسبوعين أو ثلاثة أسابيع، وهي ممارسات عملية متنوعة جادة، استفاد منها كثيرا في حياته العملية والمهنية وحتى الإدارية. وشارك أيضا على مدى سنوات خدمته وما زال، في العديد من الدورات والمؤتمرات داخل وخارج المملكة ، ومعظمها فيما يتعلق بتخصصه ، سواء في الطب الرياضي ، أو في الإعاقات والشلل، وإصابات الحبل الشوكي، والكسور بأنواعها، وكان معظم هذه الدورات تقام في المستشفيات الكبيرة ، وفي مراكز الطب الرياضي التابعة لرعاية الشباب، حيث يستضاف إليها عادة كبار الممارسين والمستشارين من خارج وداخل المملكة، بل كان يقوم المركز في أبها منفردا أو بالتعاون والمشاركة مع بعض المستشفيات في المنطقة، وبالذات مستشفى عسير المركزي، في إعداد العديد من هذه الدورات والندوات والبرامج المتخصصة . الحياة الوظيفية: • تعين كما أسلفنا في 13/2/1408هـ بعد تخرجه مباشرة، في مستشفى ابها العام، بمركز التأهيل الطبي، أخصائي علاج طبيعي ، ويعتبر هذا المركز هو الثالث على مستوى المملكة بعد مركزي الرياض ومكة المكرمة، انشئ في عام 1400هـ ليخدم كافة المنطقة الجنوبية ، ويتوفر به قسم للعلاج الطبيعي المتكامل، مجهز بأحدث التجهيزات ، وقسم الأطراف الصناعية، مجهز أيضا بكامل التجهيزات،ويقدم هذا المركز الخدمات العلاجية والتأهيلية، ويستقبل جميع الحالات المحولة من جميع مستشفيات المنطقة، مثل حالات العظام، وخاصة بعد الحوادث والعمليات الجراحية ، وحالات الآم الظهر ، والآم الرقبة والمفاصل، ومشاكل الجهاز العضلي، والإصابات الرياضية، وخشونة المفاصل ، وحالات الشلل المختلفة، ويقوم قسم الأطراف الصناعية والأجهزة التعويضية ، بتصنيع جميع الأطراف العلوية والسفلية، وأجهزة الشلل، والجبائر، والأحزمة الطبية بأنواعها، كما يقدم المركز خدمات خاصة، لذوي الاحتياجات الخاصة، مثل التقارير الطبية ، واثبات الإعاقات ، وبطاقات التخفيض ، والتسهيلات المرورية ، وغير ذلك. • كان يشارك بالإضافة إلى عمله الرسمي في هذا المركز، في خارج أوقات الدوام الرسمي، متعاونا مع نادي الوديعة الرياضي، لمعالجة حالات الإصابات الرياضية، داخل الملعب أثناء التدريبات وأثناء اللعب، وكانت بداية تعاونه معهم من شهر جمادى الأولى عام 1409هـ لأكثر من عام، واستمر متعاونا مع هذا النادي ومع كل الأندية في المنطقة، لطبيعة عمله الرسمي في المركز، حيث يتم تحويل الحالات التي يتطلب لها عناية خاصة ، فيقوم على متابعتها وعلاجها داخل المركز. • في عام 1413هـ تم تكليفه بالعمل مدرسا، في قسم العلاج الطبيعي، في المعهد الصحي بابها، التابع لوزارة الصحة، بالإضافة إلى عمله الرسمي في المستشفى . • في نفس العام 1413هـ تم ابتعاثه، من وزارة الصحة لدورة تدريبية في جامعة هلسنكي بفنلندا، في تأهيل المرضى بعد الحوادث كما اسلفنا. • بعد عودته تم تفريغه للعمل مدرسا في المعهد الصحي، وقد بقي فيه ما يقارب خمس سنوات . • في عام 1419هـ عاد للعمل في قسم العلاج الطبيعي، في مركز التأهيل الطبي ، حيث كلف بالعمل مديرا لهذا المركز ولا زال إلى تاريخه. الحياة الاجتماعية: تزوج من الفاضلة مريم بنت سلمان بن علي المثيبي الفيفي، ورزقا بخمسة أولاد ابن، وأربع بنات، وهم على النحو التالي : 1. أميرة متزوجة. 2. أسماء طالبة في كلية خدمة المجتمع قسم المحاسبة. 3. أفنان طالبة في المرحلة الثانوية علمي. 4. عبد الرحمن طالب في المرحلة المتوسطة. 5. إيناس ثلاث سنوات. 6. إيلاف عمرها دون العام. حفظهم الله ووفقهم وجعلهم بارين بوالديهم ، وبارك فيها من أسرة مباركة. هذا موجز لشخصية عصامية مثابرة، يستحق من شبابنا اتخاذه قدوة ومثالاً، فهو مثال للرجل الكادح المثابر، الذي لا يصده أي عائق عن تحقيق أحلامه ومراميه، ويعتبر على المستوى الاجتماعي من الطراز الأول، مبادر إلى خدمة مجتمعه ومحيطه ، سباق إلى كل خير، تجده يقف مع الكل في كل المواقف ، إنسان يفخر بأمثاله ويعتز بهم ، وفقه الله وبارك فيه، وكثر في مجتمعاتنا من أمثاله .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
محبكم / عبد الله بن علي قاسم الفيفي ــ أبو جمال الرياض في 1/3/1434هـ |
الاثنين، 8 أبريل 2013
الاستاذ يحيى بن هادي بن علي آل خفشة
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق